4 مليارات شيكل وظّفتها إسرائيل في مشروع العائق تحت الأرض الذي يحيط بقطاع غزة، من كرم أبو سالم جنوباً حتى منطقة زيكيم شمالاً.
واستغرقت أعمال البناء 3 سنوات ونصف السنة، وظّفت خلالها إسرائيل في بناء أهم وأكبر المشاريع الهندسية في تاريخها. ومن أجل تنفيذه. جرى بناء 6 مصانع أسمنت على طول الحدود. أكثر من مليوني متر مكعب من الأسمنت سُكب إلى عُمق عشرات الأمتار في داخل الأرض، وصولاً إلى المياه الجوفية، بكميات تكفي لـ “تعبيد طريق من إسرائيل إلى بلغاريا”، بحسب وزارة الجيش الاسرائيلية.
إسرائيل وظفت قدراتها لمنع تسلل حماس عبر الانفاق!
بدأ بناء العائق تحت الأرض في نهاية سنة 2017، من أجل إحباط الأنفاق الهجومية لـ”حماس”. في تموز 2014، استخدمت “حماس” الأنفاق الهجومية في منطقة كيبوتس صوفا. وبحسب رسالة الجيش إلى الإعلام، آنذاك “لولا عملية المراقبة، لكنّا استيقظنا على حملة قتل في الكيبوتس، ولا شك في أنهم يحاولون القيام بعمليات خطف”. اختيار حماس الأنفاق ناجم عن نجاح إسرائيل في منع الدخول والخروج من القطاع عبر سياجَين “السياج أ” الذي أقيم بعد اتفاقات أوسلو، و”السياج ب” الذي أقيم بعد الانفصال عن غزة، وسياج آخر يبلغ ارتفاعه 6 أمتار، انتهى العمل فيه مع العائق تحت الأرض في سنة 2021.
لقد جرى دمج هذه الوسائل في منظومات متقدمة من نوع “شاهد وأطلق النار” [Shooter Seer]. المزودة بكاميرات ورشاش يسمح بإطلاق النار عن بُعد بكبسة زر.
علاوة على ذلك، في سنة 2019، أنهت إسرائيل بناء العائق البحري في منطقة شمالي القطاع. الهدف من هذا المشروع التصدي للتسلل من البحر، وشمل 3 طبقات – طبقة تحت الماء، وأُخرى مصنوعة من حجارة صلبة، وثالثة من الأسلاك الحديدية.
العوائق التي وضعتها إسرائيل حول القطاع – في الأرض وتحت الأرض وتحت المياه- ترافقت مع غطاء دفاعي أقامته ضد تهديدات مصدرها غزة، من الجو. أكثرها شهرةً منظومة “القبة الحديدية”. لقد وظّفت إسرائيل مليار شيكل في تطوير وإنتاج منظومات. وبلغت تكلفة كل اعتراض من هذه المنظومات 300 ألف شيكل.
منظومة القبة الحديدية
لم تكن هذه المنظومة موجودة في شتاء 2008 خلال عملية “الرصاص المصبوب”، لكنها أصبحت فعالة جداً في سائر المواجهات. حسب ما نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية- منذ ذلك الحين، وخصوصاً في خريف 2012 (“عمود سحاب”). وفي صيف 2014 (“الجرف الصامد”)، ايضاً في ربيع 2019 (“حديقة مغلقة”).
وفي خريف 2019 (“حزام أسود”). و كذلك في ربيع 2021 (“حارس الأسوار”)، اما في صيف 2022 (“طلوع الفجر”). وفي ربيع 2023 (“بيت وحديقة”). وفي الهجوم الحالي (“السيوف الحديدية”). هناك تهديد جوّي آخر وجدت له إسرائيل حلاً هو البالونات المشتعلة من قطاع غزة.
في شباط/فبراير، أُدخلت إلى الاستخدام منظومة “سيف ضوئي” [Light Blad]، بحسب الشرطة الإسرائيلية، كان الأول في نوعه، الذي يمكنه اكتشاف البالون في أثناء طيرانه، وضربه بشعاع الليزر.
اقرأ أيضاً: إسرائيل تخوض حربا على أنفاق حماس بالروبوتات والمتفجرات
نجحت إسرائيل، حتى 7 تشرين الأول/أكتوبر، في الدفاع عن نفسها في مواجهة قطاع غزة. واستمرت في ذلك، وقامت بمئات الأفعال، وكشفت عن تهديد من البحر، وأقامت عائقاً، ومن البر، وأقامت عائقاً، ومن الجو، وأقامت عائقاً، ومن تحت الأرض، وأقامت عائقاً.
ومن ضمن هذا المنطق، فرضت حصاراً مستمراً منذ 16 عاماً على 2.5 مليون فلسطيني في القطاع. وفي إطار هذا الحصار. منعت السفن من الرسو في غزة، والإبحار منها، ولا وجود للطائرات.
المخرج الوحيد عن طريق البر كان محصوراً بالحالات الإنسانية والبضائع وبضعة آلاف من العمال المحظوظين. وهم مجموعة لا يشكلون واحداً في المئة من مجموع السكان في غزة.
إسرائيل تتبع سياسة الاغتيالات في غزة
خلال الـ16 عاماً، خاضت إسرائيل عمليات عسكرية، الواحدة تلو الأُخرى، واستخدمت سياسة الاغتيالات، وحددت البضائع المسوح إدخالها. وتلك الممنوع إدخالها، بحيث لا يجوع القطاع، وكانت تستغرب في كل مرة وصْفَ غزة بـ”السجن المفتوح” (كما فعل ديفيد كاميرون الذي كان رئيساً لحكومة بريطانيا). أو عندما يدّعي أحد أن “حياة الأطفال في غزة جحيم على الأرض” (الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوثيريش)، أو أنه “خلال سنوات، ستصبح غزة غير صالحة للعيش” (تقرير الأمم المتحدة عن المناطق الفلسطينية المحتلة في سنة 2017).
لكن سواء انطلاقاً من معاقبة حماس، أو انطلاقاً من الرغبة في مواصلة سياسة التمييز بين غزة والضفة الغربية. والمحافظة على الانقسام بين “حماس” و”فتح”، وعلى الجمود السياسي إزاء الفلسطينيين، لم تكن إسرائيل مستعدة قط للتفكير في مسار جديد يتعلق باستراتيجيتها حيال القطاع.
بناءً على ذلك، فإن العمى الكبير الذي أدى إلى 7 تشرين الأول/أكتوبر، لا يعود إلى الطريقة التي تعامل بها بنيامين نتنياهو. مع التحذير المحدد الذي وصل من مصر، أو من المنظومة الأمنية. العمى الكبير كان في التشبث بالنظرية؛ والحاجة إلى المحافظة. عاماً تلو الآخر، على الوضع الراهن “للهدوء النسبي” الهش والكاذب، ودائماً على حافة الكارثة، انطلاقاً من الاعتقاد أن كل شيء على ما يرام. وأن المنظومات الاعتراضية والعوائق والليزر ستقوم بعملها، بينما يوجد إلى جانب إسرائيل قفص بشري يزداد سوءاً.
وعد نتنياهو الكاذب
إن الذي وعد سكان “غلاف غزة”- وفق هآرتس– بآمال جوفاء بأن حياتهم مصانة بفضل ملايين الأمتار المكعبة من الأسمنت في داخل الأرض، كذب عليهم. لكن إسرائيل واصلت الحصار على غزة لأنها أرادت الفصل بين غزة والضفة، وأيضاً لأنها في الحقيقة لم تكن تعرف ماذا تفعل بـ”حماس”. لقد فضّلت إسرائيل حماس على البدائل الأُخرى، وفي الوقت عينه، أظهرت تصلباً كي لا تظهر ضعيفة في مواجهتها، وفضّلت عدم تقويتها بصورة مباشرة.
في هذا الوقت، كانت علاقة إسرائيل بالسلطة الفلسطينية مشابهة. لم ترِد إسرائيل أن تبدو ضعيفة في مواجهة “فتح”، أو تعزيز قوة السلطة بصورة مباشرة. معارضة المفاوضات مع الفلسطينيين كانت سياسة كل الحكومات الإسرائيلية الأخيرة، وهي التي أدت إلى التطرف السياسي واليأس الكامل في الضفة الغربية، وفي غزة أيضاً. لقد كان شعور الفلسطينيين (ولا يزال) بأن أحداً لا يحسب لهم حساباً؛ إسرائيل تفعل ما تشاء، حتى في الأماكن المقدسة في القدس؛ وتضم أجزاء واسعة من الضفة كأمر واقع، وتؤلف حكومة مع وزراء عنصريين يكرهون العرب ويدعون إلى محو قرى. خلال عقد ونصف العقد، نشأت جمعيات كثيرة لتشجيع زيارة اليهود لحرم المسجد الأقصى والمسجد نفسه، وارتفع عدد اليهود الذين يزورون الحرم في كل عام، من 5000 إلى 50 ألفاً تقريباً.
القضية الفلسطينية
الفلسطينيون، سواء في الضفة أم في غزة، رأوا كيف أن القضية الفلسطينية وكل الموضوعات الأساسية (القدس، والمستوطنات، والأمن، والدولة واللاجئون). أخذت تتبدد لدى الرأي العام الدولي، وكيف نجحت إسرائيل في تسجيل وقائع على الأرض، بما يتعارض مع المصلحة الوطنية الفلسطينية.
كما شعر الفلسطينيون بعدم اهتمام العالم العربي بهم، الأمر الذي أدى إلى الشعور بالعزلة وتسبّب بالتطرف. زعماء المغرب والبحرين والإمارات، حيث أغلبية الشعوب متعاطفة مع الفلسطينيين، وقّعوا اتفاقات تطبيع مع إسرائيل بوساطة من الرئيس الأميركي. الذي أراد قتل القضية الفلسطينية خلال ولايته، الرئيس دونالد ترامب، الذي نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وأغلق الممثلية الفلسطينية في واشنطن.، واقترح “صفقة القرن” التي تُعتبر أقل من مزحة سياسية، على حساب الفلسطينيين. ومؤخراً، شعر الفلسطينيون بأن الأرض تهتز تحت أقدامهم، عندما أعلنت السعودية –. حارسة الأماكن المقدسة والزعيمة الإقليمية – “أن كل يوم يمرّ، نقترب من التطبيع مع إسرائيل” (تصريح في 20 أيلول/سبتمبر 2023، قبل أسبوعين من أحداث “السبت الأسود”).
هجوم 7 أكتوبر
كان لدى “حماس”، كما أشار أدام شاتس في مقال له في (LBR)، عدة دوافع لشن الهجوم ضد المدنيين الإسرائيليين. وضد أهداف عسكرية في 7 تشرين الأول/أكتوبر. منها الرغبة في إعادة حصار غزة إلى الوعي العالمي الدولي، وإحباط التطبيع الإسرائيلي – السعودي، وكسب شعبية للنضال الفلسطيني، وتحدّي حُكم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وجرّ إسرائيل إلى داخل غزة. ومحاولة إخضاعها معنوياً. والدفع قدماً بتحرير الأسرى الفلسطينيين. لقد أرادت حماس الاحتجاج على ما يجري في الضفة الغربية. وعلى عنف المستوطنين والضم كأمر واقع، والدعوة إلى وقف التغيير في الوضع القائم في الأماكن المقدسة في القدس.
اقرأ أيضاً: إسرائيل تبلغ قطر ردها على صفقة تبادل الأسرى مع حماس
وعلى الرغم من أن الهجوم ضد مدنيين وأبرياء من نساء وأطفال لا يمكن فهمه، أو تفسيره، يجب أن نتذكر ما هو بديهي.: لقد ازدادت حركة “حماس”. تطرّفاً مع حصار غزة؛ خلال سنوات الحصار، لم يكن هناك أي أفق سياسي، لا في الضفة، ولا في غزة، لا لأنصار “فتح”، ولا لأنصار “حماس”؛ في العقدين الأخيرين. دفعت إسرائيل قدماً بسياسة التمييز بين الضفة والقطاع، وخلال سنوات الحصار الـ16، تدهور وضع القطاع عموماً، بما فيه الصحي والنفسي. وفي الواقع، من الممكن جداً أن من نفّذ عملية القتل لم يسبق له أن التقى إسرائيلياً في حياته، وعلى الأرجح، هو يكره إسرائيل والإسرائيليين كراهية كبيرة. ومن المحتمل أيضاً أن عملية القتل هذه كانت الأولى له في إسرائيل. وهي المرة الأولى التي يخرج فيها من القطاع.
2.3 مليون فلسطيني يعيشون في القطاع. 75% منهم من اللاجئين، و50% منهم تحت سن الـ 18 عاماً، وأكثر من 8000، بحسب أرقام. وزارة الصحة في غزة، هم في معظمهم، من النساء والأطفال، قُتلوا في القصف الإسرائيلي، رداً على هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. في إسرائيل، يريدون الانتقام من الغزّيين. الانتقام منهم. والانتقام من “حماس”، كأن “حماس” تنظيم له بداية ونهاية، كأننا لم ننتقم من “حماس” مرات ومرات. كأنه لا يوجد هناك نزاع مفتوح ودموي، ولم ندفّعهم في الماضي “ثمناً باهظاً”.
سكان غلاف غزة
بناءً على ذلك، إذا كان هناك وعد يتعيّن تقديمه إلى أولئك الذين فقدوا أغلى ما لديهم في إسرائيل، وخصوصاً سكان “غلاف غزة”. وأيضاً إلى جميع مواطني إسرائيل الذين فقدوا أفراداً من عائلاتهم وأصدقائهم وزملائهم –. فهو ليس الاستمرار في صبّ الأسمنت في داخل الأرض، وفي إنتاج مزيد من منظومات الليزر. بل السعي لوضعٍ قائم جديد، مستقر وحقيقي، ويتطلع إلى الحياة. يجب السعي لوضع لا يفكر الفلسطينيون. في حفر نفق هجومي إلى كيبوتس صوفا. ولا يحلمون بإطلاق بالونات مشتعلة في اتجاه النقب. هذا الوعد يجب أن يكون بإعادة النظر في السياسة المشوهة التي انتُهجت في الضفة الغربية منذ نشوب الانتفاضة الثانية. وفي قطاع غزة، خلال السنوات الـ16 الأخيرة. يجب أن نقترح أفقاً سياسياً وأملاً من خلال الاستعداد الحقيقي للتسوية في مختلف الموضوعات. مع الزعامة الفلسطينية في رام الله، أو مع زعامة تمثل فعلاً الشعب الفلسطيني، وانطلاقاً من الإدراك أن حماس لن تختفي.
يجب على إسرائيل النزول عن الشجرة العالية وغير المفيدة التي صعدت إليها. وإذا كانت ترغب في الحياة، وليس في الموت. يتعين عليها تغيير وتبديل أسطوانة علاقتها بالقضية الفلسطينية. وحتى التفسيرات التي سيتعين عليها. تقديمها في المستقبل: هذا التغيير جرى، ليس لأننا “استسلمنا” لحماس، بل لأننا لأول مرة، نختار الحياة.